نحو مذاهب إسلامية فى النقد الأدبى 2 كلاسيكية
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
نحو مذاهب إسلامية فى النقد الأدبى 2 كلاسيكية
مواصلة لما سبق من حديث في هذا المجال نتناول المذاهب الأدبية الغربية بالعرض والنقد لنبين عدم جدواها في تقييم الأعمال الأدبية الإسلامية. ونبدأ بالكلاسيكية.
الكلاسيكية
يتفق غالبية رجال الأدب على أن الكلاسيكية هي أقدم مذهب أدبي في الظهور والانتشار لدى الأغريق والرومان، فهو أدب قديم. فالكلاسيكية في معناها اللغوي مشتقة من الكلمة اللاتينية (كلاسيس Classis) التي كانت تفيد أصلاً "وحدة في الاسطول" ثم أصبحت تفيد "وحدة دراسية" أي "فصلاً مدرسياً". والأدب الكلاسيكي يتكون من المؤلفات الإغريقية واللاتينية القديمة التي أفلتت من طوفان الزمن
وحرصت الإنسانية على إنقاذها من الفناء لما فيها من خصائص فنية وقيم إنسانية تضمن لها الخلود وتجعلها، بحسب الاعتقاد الغربي، أداة صالحة لتربية الناشئين في فصول الدراسة.
وعندما ظهرت حركة البعث العلمي، وأخذ الأوربيون يعودون إلى الثقافة والآداب اليونانية واللاتينية بنشر الأصول المخطوطة ودراستها واتباع أصولها الفنية القديمة،أصبحت الكلاسيكية تعني تقليد هذا الأدب الروماني واليونان القديم في عصر النهضة (القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلادي) في إيطاليا، أو في فرنسا في القرن السابع عشر الميلادي، إلا أن الإيطاليين ساروا على النهج اليوناني بينما سار الفرنسيون على النهج اللاتيني وقلدوا كتابهم وأدبائهم.
وقام المذهب الكلاسيكي الحديث على الأفكار والمبادئ التالية:
1- تقليد الأدب اليوناني والروماني في تطبيق القواعد الأدبية والنقدية وخاصة القواعد الأرسطية في الكتابين الشهيرين: فن الشعر وفن الخطابة لأرسطو.
2- اعتبارالعقل هو الأساس والمعيار لفلسفة الجمال في الأدب، وهو الذي يحدد الرسالة الاجتماعية للأديب والشاعر، وهو الذي يوحد بين المتعة والمنفعة. ولما كانت الكلاسيكية تهدف إلى التعبير الفصيح الجيد عن المعاني الواضحة المحددة، فقد كان من الطبيعي أن يكون اعتمادها الأول على العقل الواعي المتزن الذي يكبح الغرائز والعواطف ويسيطر عليها بإدراك خفاياها وعملها الدفين. فلا اسراف عاطفي في الكلاسيكية. ولهذا اتجهت الكلاسيكية إلى الأدب الموضوعي الذي يتمثل في المسرحية أو القصة.
3- الأدب للصفوة المثقفة الموسرة وليس لسواد الشعب، لأن أهل هذه الصفوة هم أعرف بالفن والجمال، فالجمال الشعري خاصة لا تراه كل العيون.
4- الاهتمام بالشكل وبالأسلوب وما يتبعه من فصاحة وجمال وتعبير.
5- ارتبط المذهب الكلاسيكي بالنظرة اليونانية الوثنية، وحمل كل تصوراتها وأفكارها وأخلاقها وعاداتها وتقاليدها.
لقد كانت العقلانية الإغريقية لوناً من عبادة العقل وتأليهه، وإعطائه حجماً مزيفاً أكبر بكثير من حقيقته، كما كانت في الوقت نفسه لوناً من تحويل الوجود كله إلى (قضايا) تجريدية مهما يكن من صفائها وتبلورها فهي بلا شك شيء مختلف عن الوجود ذاته، فهي قضايا تعالج معالجة كاملة في الذهن بصرف النظر عن وجودها الواقعي ! وبصرف النظر عن كون وجودها الواقعي يقبل ذلك التفسير العقلاني في الواقع أو لا يقبله، ويتمشى معه أو يخالفه!
ثم جاءت الكثلكة المسيحية التي تعبر عن (البابوية)، والبابوية نظام كنسي ركز (السلطة العليا) باسم الله في يد البابا، وقصر حق تفسير (الكتاب المقدس) على البابا وأعضاء مجلسه من الطبقة الروحية الكبرى، وسوى في الاعتبار بين نص الكتاب المقدس وإفهام الكنيسة الكاثوليكية…". ومن ثم نشأت في الفكر الأوروبي تلك (المسلمات) أو العقائد المفروضة فرضاً التي لا يجوز مناقشتها لا لأنها – في حقيقتها – من الأمور التي ينبغي للعقل أن يسلم بها دون مناقشة، ولكن لأنها مناقضة للعقل، ومفروضة عليه فرضاً من قبل رجال الدين، الذين زعموا لأنفسهم حق صياغة العقائد وفرضها على الناس بالقوة دون أن يكون لهم حق المناقشة أو الاعتراض وإلا كانوا مهرطقين مارقين. يجوز فيهم كل شيء حتى إهدار الدم وإزهاق الأرواح.
إن الكنيسة الأوروبية قد أفسدت المسيحية كلها بما أدخلته من التحريف على الوحي الرباني المنـزل من السماء لهداية البشرية على الأرض، وتخبطت في قضية الألوهية تخبطاً من نوع جديد، حين قالت إن الله ثلاثة أقانيم، وإن المسيح ابن مريم عليه السلام واحد من هذه الأقانيم الثلاثة، وإنه ابن الله وفي الوقت ذاته إله، وشريك لله في تدبير شؤون الكون. فإن هذه الألغاز التي ابتدعتها المجامع المقدسة في شأن الألوهية لم تكن (معقولة) ولا مستساغة. فما يمكن للعقل البشري أن يتصور ثلاثة أشياء هي ثلاثة وهي واحد في ذات الوقت. وما يمكن أن يتصور أن الله سبحانه وتعالى ظل متفرداً بالألوهية وتدبير شأن هذا الكون ما لا يحصى من الزمان، ثم إذا هو – فجأة- يوجد كائناً آخر ليكون شريكاً له في الألوهية ومعيناً له في تدبير الكون!! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وقد نشأت عن ذلك في الحياة الأوربية والفكر الأوروبي مجموعة من الاختلالات التي لم تنشأ – كما تصور الفكر الأوروبي في مبدأ عصر النهضة – من إهمال الفلسفة والعلوم الإغريقية والالتجاء إلى الفكر (الديني). فلم يكن (الفكر الديني) من حيث المبدأ، ولا إخضاع العقل للوحي هو مصدر الخلل في فكر العصور الوسطى في أوروبا، إنما كان الخلل كامناً في ذلك الفكر الذي قدمته الكنيسة باسم الدين، وفي إخضاع العقل لما زعمت الكنيسة أنه الوحي، بعد تحريفها ما حرفت منه، وإضافتها ما أضافت إليه، ومزج ذلك كله بعضه إلى بعض وتقديمه باسم الوحي.
ومن هنا عادت أوربا للعقلانية والكلاسيكية نافضة الغبار عن أصولها الإغريقية واللاتينية، وقد ساعدها في ذلك ظهور الفلسفات العقلانية التي قاد لواءها الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596م - 1650م) الذي جعل الفكر أو المنطق مصدراً للمعرفة ومعياراً للحقيقية. فهو قد اعتمد على المنهج العقلي لإثبات الوجود عامة ووجود الله على وجه أخص من مقدمة واحدة اعتبرت من الناحية العقلية غير قابلة للشك وهي: "أنا أفكر فأنا إذن موجود". العقلانيةمذهب فكري يزعم أنه يمكن الوصول إلى معرفة طبيعة الكون والوجود عن طريق الاستدلال العقلي بدون الاستناد إلى الوحي الإلهي أو التجربة البشرية، وكذلك يرى إخضاع كل شئ في الوجود للعقل لإثباته أو نفيه أو تحديد خصائصه.
وهذه هي المرحلة الثانية من التخبط الكلاسيكي الذي جارى العقلانية في جعل العقل - لا الوحي - هو المرجع في تفسير كل شئ في الوجود، وفي القول بأن العقائد الدينية ينبغي أن تختبر بميزان العقل، ونشأ عن ذلك عدم ايمانها بالمعجزات والكرامات.